إنّ مسألة القوميّات والهُويّة الوطنيّة أصبحت سؤالًا جَدليًّا مُلحًّا، لا سيّما في سياق التحوّلات العالميّة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة والاجتماعيّة عامّة وفي ظلّ النزاعات الطاحنة والمستمرّة في الشرق الأوسط على وجه الخصوص. ربّما بشكل خاصّ عند الحديث عن تشكُّل هُويّات فوق-وطنيّة وهُويّات ذات مواطَنة ثانويّة-فرعيّة هي نفسها وليدة تلك التحوُّلات، ويُشكّل الزمن فيها محورًا ومركّبًا مركزيًّا.
سأتناول في هذا المقال الهُويّة القوميّة على أنّها هُويّة أدائيّة (performative) – هُويّة يقوم الفرد، والمجتمع على نطاق أوسع، بأدائها عند توافر ظروف زمانيّة ومكانيّة معيّنة. وستكون نقطة انطلاقي الأساسيّة أنّ الحالة الاستعماريّة الإسرائيليّة في مناطق الجولان المُحتلّة، تخلق أزمنة وأمكنة مُختلفة في الفضاء الاستعماريّ ذاته، بحيث تُلقى على المُستَعمَر مهمّة التكيّف والتعايش وتشكيل هُويّته وَفقها. كذلك سأختتم المقال بمحاولة استعارة التحليل الكويريّ للهُويّة الأدائيّة، كما صاغته باتلر، كأداة للتكيّف لدى شرائح المجتمع المختلفة في الجولان ضمن السياق الاستعماريّ.
الزمن والأدائيّة في بناء الهُويّة القوميّة:
يصف أندرسون، في كتابه "المُجتمعات المُتخيّلة"، فكرة الدولة القوميّة بأنّها ظاهرة حداثويّة (modernist)، ويرى الأمّة باعتبارها المُجتمعَ السياسيَّ المتخيَّل (imagined political community). والأمّة مُتَخيَّلةٌ لأنّ جميع أفرادها، حتّى الأقلّ تعدادًا فيهم، غير قادرين على خلق تواصل مباشر وعميق في ما بينهم، أي إنّه يتعذّر على أفراد المجتمع القوميّ معرفة أيّ منهم للآخر، وما يوحّدهم كأمّة هو الشعور القوميّ المشترَك المتخيَّل، ليضاف إليه بعد ذلك حدودُ الدولة القومية، واللغة والمنظومة العسكريّة ووسائل الإعلام وما إلى ذلك.
هنالك علاقة طرديّة مباشرة بين الفكر القوميّ والشعور بالانتماء الوطنيّ، بحيث يصبّ تركيز الأوّل على المحور الإدراكيّ والفكريّ. أمّا الأخير، فهو البُعد المحسوس والفعليّ والمُمارَس من هذا الانتماء.
فالانتماء الوطنيّ هو علاقة انتماء إلى وطن (إقليم وأرض وإرث)، فيها تكون هذه الأرض هي عبارة عن تجسيد مادّيّ لمفهوم يدخل من خلال التفاعل معه وتكراره مرارًا بنجاح إلى صميم تكوين الشخصيّة فيصبح جزءًا منها. ويُضفي المحور الأوّل، أي المحور الفكريّ، على علاقة الانتماء هذه بُعدَها السياسيَّ والاجتماعيّ والتاريخيّ، ويقوم بتعزيز بنْيتها الأيديولوجيّة وصقلها ومَوْضَعَتِها على مرّ العقود. لعلاقة الانتماء هذه مع الوطن والفكر القوميّ عامّةً ممارسات دوريّة تنخرط تفاصيلها بتفاصيل الحياة اليوميّة، أكثرها انتشارًا تتلخّص في ممارسة لغة الدولة القوميّة ومُعايشتها والخطاب الوطنيّ، كما النشيد وخدمة العلَم والسياقات الدينيّة فيها وما إلى ذلك. تَحْدث هذه كعوامل أساسيّة في بناء الحيّز المَعيش، وتُكَوِّن جزءًا من الخطاب اليوميّ بحيث تبني أسس الإدراك والذهنيّة لدى الفرد والجماعة.
لذلك، من منظور المُمارسات تلك والأفعال الأدائيّة في ما يخصّ الهُويّة والتعريف القوميّ، يمكننا القول إنّ القوميّة هي ليست شيئًا يملكه الفرد والجماعة، وإنّما هي مُمارسات متكرّرة وأفعال أدائيّة يوميّة يقوم بتطبيقها الأفراد ويمارسها المجتمع. من هذا المنطلق، يشير مفهوم الهُويّة القوميّة في هذا النصّ على أنّها هُويّة وضعيّة وإستراتيجيّة بدلًا من أن تكون هُويّة جوهريّة.
تلجأ الدولة، ضمن حاجتها إلى إعادة إنتاج مواطنيها إلى الخطاب القوميّ كآليّة أيديولوجيّة من أجل خلق الأمّة، ويجري إنتاج هذا الخطاب، الفرديّ منه والجماعيّ، عبر المُمارسات اليوميّة التي تخلق تسلسلًا زمنيًّا كرونولوجيًّا. هذا التسلسل يصوغ سرديّة المجتمع ويجعل منها حبكة متماسكة. استمراريّة الممارسات القوميّة اليوميّة تضفي على سرديّة المجتمع معنًى واضحًا، وذلك عَبْر مَوْضَعتها ضمن خطّ زمنيّ مستمرّ. وبما أنّ الكرونولوجيا دائمة الصنع (always in the making)، فهكذا أيضًا الهُويّة القوميّة المتمحورة حولها، دائمة الصنع وعديمة الثبات. ففي المعتاد، يعود المجتمع القوميّ إلى الماضي بغية صقل هُويّته الجماعيّة في الحاضر، وتكون بعض الممارسات -كالطقوس القوميّة السنويّة واستذكار الشهداء وغيرها- بمثابة استحضار الماضي في الوقت ذاته الذي يُكتَب فيه المستقبل.
يدّعي أندرسون أنّ الزمن يتمركز في صميم الخطاب القوميّ الحداثويّ. فإنّ المفهوم الحداثويّ للزمن على أنّه مُتتالٍ ومُتناسق ومُستمرّ سَيّر نموّ الفكر القوميّ وتشكُّلاته. فالزمن في الحداثة مُتجانس وخطّيّ (linear) يبدأ من الماضي، يمرّ في الحاضر، ووجهته نحو المستقبل، وإنّ جميع الأمم، ولا سيّما الحديثة منها، تسعى على نحوٍ دائم لإثبات هذا التسلسل والربط بين أزمنته وحقباته التاريخيّة. وبما أنّ الممارسات القوميّة هي نتاج لأداءات الفرد والجماعة، فالذات (subject) هنا هي أيضًا أساس. فيرى أندرسون أنّ المجتمعات تحترم الفرد وتعترف به كذات مستقلّة فقط عندما يتبع لقوم ما، وبعد أن يمرّ بسيرورة القوميّة، أي يتأمّم (nationalized). أمّا باتلر، فترى في نظريّتها الأدائيّة أنّ "ممارسة التجربة الشخصيّة للهُويّة، أيّ هُويّة كانت، على أنّها أصليّة ومتماسكة ليست هي المصدر، وإنّما هي (أي التجربة) نتاج رزمة من الأفعال الأدائيّة والممارسات التي تلائم الهُويّة؛ "فالهُويّة، كأي براكسيس خطابيّ آخر (discursive practice)، مبنيّة على التفاوض، والهدم والتفكيك (de-construction)، والبناء (reconstruction).
المجتمع السوريّ في الجولان المحتلّ والتعريف الإسرائيليّ القسريّ للهُويّة:
يعمل الاستعمار الاستيطاني -وهو "بنْية وليس حدثًا"- وَفق "مبدأ الإبادة"، فيقوم بإبادة السكّان الأصليّين، ساعيًا إلى "الهدم بهدف الاستبدال"، ويكون هذا الغزو مترافقًا مع مشروع القضاء على وجود السكّان الأصليّين في الأرض، لاستبدالهم بالمجتمع والنظام الاستيطانيّ الجديد. فخلال حرب عام 1967، قامت إسرائيل في الجولان بأوسع عمليّة تهجير (مقارنة بنسبة السكّان) في تاريخ الصراع العربيّ الإسرائيليّ؛ إذ لم يبقَ في الجولان من أصل سكّانه، الذين بلغ عددهم 130,000 نسمة عام 1967 ومن ضمنهم 9,000 لاجىء فلسطينيّ، سوى 6,000 نسمة.
وبالتوازي مع الاحتلال الإسرائيليّ الفعليّ للمكان والحيّز السوريَّيْن في الجولان، جرى احتلال الزمن السوريّ كذلك وتقويضه، وفرض الزمن الإسرائيليّ ليصبح هو المُهَيْمِن. فمنذ الأيّام الأولى للاحتلال، استبدلت إسرائيل القوانين والمؤسّسات الوطنيّة السوريّة بمؤسّسات إسرائيليّة، وفرضت القانون العسكريّ على المناطق التي أصبحت تحت نفوذها. وكانت أهمّ هذه التغييرات -عدا الاستيطان الإسرائيليّ ومصادرة الأراضي والمياه- تعيين مجالس محلّيّة واستبدال منهاج التعليم السوريّ بمنهاج إسرائيليّ أُعِدَّ خصّيصاً لأبناء الطائفة الدرزية، ورمى إلى خلق انتماء للهُويّة الدرزيّة على أنّها هُويّة مُنفصلة عن الهُويّة العربيّة.
فمع الاحتلال عام 1967، أعادت إسرائيل رسم حدود دولتها مجدَّدًا، وفكّكت الروابط بين الدولة السوريّة والسيادة التي كانت لها على الجولان، منطقة وسكّانًا، وباشرت في بناء المستوطنات، وشقّ الطرقات ابتغاءَ وصلها بمركز الدولة اليهوديّة، إضافة إلى إقامة المعسكرات وتعزيز رموز السيادة الإسرائيليّة في الجولان بعد احتلاله. تدريجيًّا، ونظرًا للحاجة، تغيّر مركز الحياة لدى سكّان الجولان، فبدلًا من دمشق والقنيطرة وغيرهما من المدن السوريّة الكبرى التي شكّلت مركزًا للحياة لدى سكّان الجولان قبل الاحتلال، أصبحت الناصرة وحيفا ونابلس -ولربّما المراكز التجاريّة في القرى والمدن اليهوديّة القريبة- هي المراكز البديلة.
وكذلك الأمر في شأن المنتَجات التجاريّة الإسرائيليّة التي انخرطت تدريجيًّا في أسواق الجولان، وخدمات البنى التحتيّة كالمياه والكهرباء، ومؤخّرًا أكثر الكوابل والعملات النقديّة وغيرها. المقصود أنّ الاحتلال لم ينحصر في الاستيلاء على الأرض والموارد الطبيعيّة فحسب، وإنّما توسّع ليضمّ الفضاء الاستهلاكيّ والاقتصاديّ في الجولان، وبهذا تغلغل الزمن الإسرائيليّ وتفاصيله بحيثيّات وتفاصيل حياة المجتمع السوريّ اليوميّة في الجولان. فما صار يحدث في الناصرة وحيفا، وفي "إسرائيل" عامّة، يؤثّر على الجولان، وبذلك بدأ الجولان بالعيش في نفس الخطّ الزمنيّ الذي تعيشه شرائح المجتمع الإسرائيليّ المختلفة.
وإذا كانت المرحلة الأولى للاحتلال الإسرائيليّ في الجولان منذ عام 1967 حتّى أواخر السبعينيّات قد استحوذت فعليًّا على الجسد والمكان، فإنّ المرحلة الثانية كانت في محاولة احتلال النفس وتعريفاتها؛ إذ لم ينشأ انخراط شعبيّ واسع في النضال السياسيّ إلّا في نهاية السبعينيّات، عندما حاولت إسرائيل، من خلال ممارسات فرض الجنسيّة الإسرائيليّة على المواطنين السوريّين، احتلالَ التعريف القوميّ الذاتيّ والجمعيّ. فكانت الخطوة الكولونياليّة الأشدّ في الجولان، إضافة إلى الاستيطان، محاولةَ فرض الجنسيّات الإسرائيليّة قسريًّا على سكّان المجتمع المدنيّ هناك، ليصبحوا جزءًا من الدولة الإسرائيليّة، ولكي يشكّلوا بعد ذلك عاملًا هامًّا بشَرْعَنة ضمّهم هم وأراضيهم إلى إسرائيل. بَيْدَ أنّ السكّان المحلّيّين رفضوا هذه اللعبة، وذلك عَبْر تصعيد الإضرابات والتظاهرات والمؤتمرات الصحافيّة التي أكّدوا من خلالها رفضهم التخلّي عن جنسيّتهم السوريّة. وواجه الاحتلال هذه المقاومة السلميّة بتشديد العقوبات الجماعيّة والفرديّة. وفي نهاية الأمر، وبعد إضراب شامل دام نصف عام، وشمل ضمنه عمليّات حرق جماعيّة للجنسيّات الإسرائيليّة، بدأت السلطات الإسرائيليّة بإصدار بطاقات الهُويّة لسكّان الجولان مع التعريف "غير معرّف" (undefined) في خانة القوميّة.
الأزمنة والأمكنة المختلفة في الفضاء الاستعماريّ، وَ "كويريّة الهُويّة القوميّة" كأداء يوميّ تحت الاحتلال:
إنّ الكولونياليّة الثقافيّة واحتلال العقل، كما شرحها مفكّرو الفترة ما بعد الكولونياليّة، تعكس -بواسطة مصطلحات اجتماعيّة وعمليّة عقلانيّة صِرفة- كيفيّة إجراء بلورة وعي جماعيّ، وتحويله إلى وسيلة للاغتراب الذاتيّ والتنكّر للذات. إنّي أرى في الفرض القسريّ للجنسيّة تأكيدًا على فرض السيادة الإسرائيليّة التي أصبحت وحدها سيّدة التعريف. وحتّى المكانة "غير مُعرّف"، التي تظهر اليوم على الأوراق الثبوتيّة لمعظم سكّان الجولان، هي إثبات واضح على عدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيليّة تجاه الذات والأفراد، وحتّى الجماعة مِن حَمَلة هذا التعريف. وهي في الأساس محاولة لسلب التعريف الأصليّ للذات ونقضه. أما الخطاب المحلي السوري الوطني الذي عبّر عن نضال المجتمع السوري ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى يومنا هذا، لا سيما عبر مروره بأشكال النضال المختلفة، فقد نصّب نفسه أمام الخطاب الإسرائيلي الكولونيالي، ولكن على الرغم من ذلك نتجت في الواقع حالات وجوديّة ترتكز في معظمها على خطابات وممارسات ثنائيّة متقاطبة يتلقّاها المحلّيّ. الخطاب الإسرائيليّ ونقيضه السوريّ، والنضال في سبيل هُويّة مُعرّفة ونقيضه المحاولات الإسرائيليّة التي سعت إلى عدم التعريف، وكذلك الخطاب الذي اعتبر نفسه حداثيًّا ونقيضه الخطاب والمنظومة غير الحداثيّة. بين جيع هذه الخطابات تحاول الذات السوريّة في الجولان الوجودَ والتكيُّف. بعبارة أخرى، خلقت التناقضات التعريفيّة كينونة الذات الجديدة في الجولان وشكّلت توجُّهاتها. فرغم أنّ هذه الذات رفضت الاعتراف بالجنسيّة والتعريف الإسرائيليّين، فإنّها بمرور الوقت صارت مستهلِكة لخدماتها الضروريّة لها، وبدأت بتذويت حالة الفقدان، الفرديّة والجماعيّة، التي نتجت عن بتر المجتمع المحلّيّ عن وطنه الأصليّ. وحالة الفقدان هذه، التي بدأت الذات باستيعابها، ضمّت أيضًا عامل الفشل المتكرّر في تحقيق الهُويّة وبلوغها. فأدرك الفرد فيها أنّه حتّى لو أراد أن يصبح "إسرائيليًّا" هو غير قادر لكونه "غير معرَّف" بالمستوى الأوّل، وكونه عربيًّا بالمستوى الثاني، كما أنّه غير قادر على أن يكون "سوريًّا" على نحوٍ متكامل لكونه سُلبت منه الهُويّة السوريّة أوّلًا، وغير قائم ضمن حدود الدولة السوريّة ثانيًا وأبدًا لن يكون، كما أنّه غير قادر على استهلاك ومعايشة الحالة السوريّة كاملةً نظرًا لبعده القسريّ عنها ووجوده خارجها مكانًا وزمانًا. وضمن هذه الحالة الثنائيّة، اتّخذ التعريف القسريّ "غير مُعرّف" معناه بصورة تامّة.
إنّ التسميات ليست حياديّة، وخصوصًا عندما تكون سياسيّة، فهي أيديولوجيّة. والتسميات لدى البشر تعيّن الهُويّة والأصل. كلّ العبرة في التسمية أنّها ليست بحاجة إلى براهين. وما يميّز مواقفَ الفرد وحالةَ الذات، حسب باتلر، هو كونهما يخفيان الحقيقة أنّهما مَصوغان ومُشكَّلان بواسطة البراكسيس والديناميّات التي ضمْنها تَشكّلوا. تظهر الذات في اللغة على أنّها الأصل، وكأنّها سبقت اللغة وسبقت "الأنا / المتكلّم" الذي يقوم بممارسة الذات فعليًّا، في الوقت الذي فيه هي (أي الذات) مثلها مثل الهُويّات الأخرى، حالة لم تكن قادرة على الوجود والتحقُّق لولا الأداءات التي تعود على نفسها وتكرَّر مرارًا الأفعال والكلمات المنبثقة عن صاحب "الأنا / المتكلّم"؛ أي إنّ الذات، مرّة أخرى، ليست هي الأصل والمصدر، وإنّما هي شعور ناتج عمّا نقوم بممارسته وتكراره على أنّه هُويّتنا. وفي السياق القوميّ للجولان، فإنّ الهُويّة "غير المعرَّفة" لم تكن أصلًا قادرة على التحقُّق فعليًّا لولا الخطاب الذي أثير حولها والهبّة لمناهضتها بعد محاولات فرضها من قِبَل الاحتلال. فالخطاب أنتج حالة تخيُّليّة أنتجت واقعًا مَعيشًا. وهذه، عمليًّا، إحدى الثيمات المركزيّة في النظريّة الأدائيّة، والتي وَفْقها يكون حيّز اللغة والخطاب الإدراكيّ سابقًا لحيّز الهُويّة والذات، وأنّ الأفعال الأدائيّة على أنواعها هي التي تبني الذات وتصوغ الهُويّة.
إنّ ممارسة الهُويّة القوميّة في الجولان، وأداءها، يعتمدان بالأساس على المكان والزمان اللذَيْن تمارَس الهُويّة وتؤدّى ضمنهما. ولأنّ المبدأ الحاكم في بناء سيرورة الكيان الصهيونيّ أينما كان، في فلسطين أو في الجولان المحتلّ، هو الهيمنة على "الزمان" وَ "المكان"، فنرى مثلًا ظهورًا وتعزيزًا لممارسات هُويّاتيّة قوميّة في أمكنة معيَّنة، وحَجْبها (أو التراوح بين حضورها وغيابها) في أمكنة وأزمنة أخرى. وممّا يَصْلح مثالًا لذلك إبراز الخطاب القوميّ السوريّ والهُويّة السوريّة لدى المجتمع المحلّيّ في الجولان في أزمنة كمراسيم الإفراج عن الأسرى، وذكرى قرار ضمّ الجولان، أو يوم الجلاء وعيد استقلال الدولة السوريّة وغيرها من الأزمنة السياسيّة الواضحة. ولا يقتصر الأداء هذا على الأزمنة وحسب، وإنّما يقوم الفضاء المكانيّ بدور أساسيّ لتمكين تأدية وبروز الهُويّة السوريّة كما هي، فنرى ذلك في تلّة الصيحات المحاذية للحدود التي رُسمت بعد احتلال الجولان بمحاذاة الأراضي السوريّة غير الواقعة تحت الاحتلال، وساحات البلدة التي شكّلت على مرّ التاريخ رموزًا سياسيّة خاصّة كساحة سلطان باشا الأطرش وغيرها. ومن جهة أخرى، نرى محاولات ستر (وإخفاء) لممارسات الهُويّة السوريّة ورموزها في أزمنة وأمكنة أخرى، كمداخل البلدات في الجولان، والتي تطلّ على المستوطنات، والتي تقوم بدور مركزيّ في اقتصاديّات المجتمع المحلّيّ، والشوارع السياحيّة في المنطقة، بحيث تكثر فيها اللافتات في العبريّة، وربّما تُزاح ممارسات الهُويّة القوميّة فيها جانبًا. وهكذا، يكون المستعمَر في أزمنة وأمكنة وجوديّة مختلفة، ذات معماريّات مُتناقضة ومُتحوّلة لا إراديًّا، تعاود هي بدورها صياغته، وتحدّد أشكاله وتعابيره.
[ نشرت في مجلة "جدل" ويعاد نشرها بالاتفاق مع الكاتب]
هوامش:
1. فخر الدين، منير (2006). تجربة الجولان تحت الاحتلال الإسرائيليّ.
2 . أقوم هنا باستعمال المفهوم الكويريّ النسويّ القائم على فصل الجنس البيولوجيّ للمرء عن دوره أو دورها الاجتماعيّ، والذي يعمل على كسر الملاءَمة النمطيّة التي نراها طبيعيّة بعلاقة الجنس والدور الاجتماعيّ، واستعارته إلى داخل النقاش القوميّ. نظرًا للادّعاء الذي صغته أعلاه أنّ الهُويّة القوميّة في هذه الورقة هي هُويّة أدائيّة وهي إستراتيجيّة، بدلًا من أن تكون جوهريّة. كما أنّ النضال الكويريّ الجنسويّ يقوم عن وعي تامّ، إضافة إلى كسر االتلاؤم بين البيولوجيّ والاجتماعيّ، باستعمال التنوّع الهُويّاتيّ كأداة نضال ونقد اجتماعيّة أي من خلال استعمالات الهُويّة المختلفة وَفق أزمنة وأمكنة مختلفة.